كان تذمر الناس من الحكومة قد بدا منذ سنوات ، و صرنا نسمع منذ عدة شهور بأن الرئيس بالماسيدا يسعى للتحول الى ديكتاتور ، محطما بذلك تقاليد سبع و خمسين عاما من احترام الدستور ، فذلك الدستور الذى صاغته الأرستقراطية لكى تحكم البلاد الى الأبد ، كان يمنح الجيش صلاحيات واسعة جدا ، و عندما سقط الحكم فى يدى شخص ذى أفكار مخالفة ، تمردت الطبقة الراقية ، و لم يكن الرئيس بالماسيدا ، الرجل اللامع ذو الأفكار الحديثة ، قد حكم بصورة سيئة فى الواقع . فقد شجع التعليم أكثر من أى حاكم سابق ، و دافع عن ملح البارود التشيلى من الشركات الأجنبية ، و أنشأ المستشفيات و الكثير من المنشآت العامة و خصوصا السكك الحديدية ، مع انه بدأ مشاريع أكثر بكثير من تلك التى تمكن من اكمالها ، كانت تشيلى تتمتع بقوة عسكرية و بحرية ، و كانت بلدا مزدهرا و عملته هى الأقوى فى أمريكا اللاتينية و مع ذلك ، لم تسامحه الأرستقراطية على رفعه من مكانة الطبقة الوسطى و محاولته الحكم معها ، كما ان رجا ل الكهنوت لم يستطيعوا التسامح مع فصل الكنيسة عن الدولة ، و الزواج المدنى الذى حل محل الزواج الدينى ، و القانون الذى سمح بدفن موتى من كل الأنواع فى المقابر .لقد كان التخلص من جثث من كانوا كاثوليكيين أو غير كاثوليكيين فى الحياة مشكلة عويصة من قبل . و كذلك الأمر بالنسبة للملحدين و المنتحرين ، الذين كان ينتهى الأمر فى الغالب بألقاء جثثهم فى الوهاد الجبلية السحيقة أو فى البحر . و بسبب هذه الإجراءات ، تخلت النساء عن الرئيس بالجملة ، و مع أنهن لم يكن يتمتعن بسلطة سياسية ، إلا انهن كن يحكمن فى بيوتهن و يمارسن فيها تأثيرا رهيبا كما أن الطبقة الوسطى التى دعمها الرئيس بالماسيدا ، أدارت له ظهرها أيضا ، فرد على ذلك بغطرسة ، لأنه كان معتادا على أن يصدر الأوامر و يطاع ، مثل كل ثرى فى ذلك الحين . فقد كانت أسرته تملك مساحات شاسعة من الأراضى .. مقاطعة بالكامل ، بكل ما فيها من محطات و سكك حديدية و ضياع و مئات الفلاحين ، و لم تكن لذويه سمعة الملاكين طيبى القلب . و إنما سمعة الطغاة القساة الذين ينامون و السلاح تحت وسائدهم ، و ينتظرون الأحترام الأعمى من فلاحيهم ، و ربما لهذا السبب حاول ان يدير البلاد كما لو انها أقطاعيته الخاصة ....
......
كانوا يسخرون من خطابيته كثيرة الثرثرة و تصريحاته المفعمة بحب تشيلى و ا لغيرة عليها ، و يقولون إنه كان يوحد نفسه بالوطن إلى حد أنه لم يعد قادرا على تصور الوطن دون ان يكون على رأسه و كانوا ينسبون اليه عبارة ( إما لى أو لا لأحد ) لقد عزلته سنوات الحكم و صار يبدى فى النهاية سلوكا غير مستقر ينتقل من النزوة إلى الإكتئاب ، و لكنه كان يتمتع ، حتى بين أسوأ خصومه ، بسمعة رجل الدولة الجيد و بالنزاهة التى لا تشوبها شائبة ، مثل جميع رؤساء تشيلى تقريبا ، الذين على خلاف زعماء أمريكا اللاتينية يخرجون من الحكم و هم أشد فقرا مما كانوا عليه حين دخلوا اليه . كانت له رؤية مستقبلية فكان يحلم بخلق أمة عظيمة ، و لكن قدر له أن يعيش نهاية مرحلة و فساد حزب أمضى زمنا طويلا فى السلطة . لقد كانت البلاد و العالم يتغيران ، و كان النظام الليبرالى قد أصيب بالفساد . فالرؤساء يختارون من سيخلفهم . و السلطات المدنية و العسكرية تمارس التزوير فى الإنتخابات ، و يكسب حزب الحكومة دوما بفضل قوة تليق بها صفة الوحشية التى ألصقت بها : فحتى الموتى و الغائبين كانوا يشاركون فى التصويت للمرشح الرسمى . و كانت الأصوات تشترى و يجرى ترهيب المتشككين بالهراوى . واجه الرئيس معارضة لا تلين من المحافظين ، و من بعض الجماعات الليبرالية المنشقة ، و سلك الكهنوت بمجمله و لاقسم الأكبر من الصحافة . و لأول مرة ألتقت أقصى أطراف الطيف السياسى على قضية واحدة : هزيمة الحكومة . فى كل يوم كانت تجتمع مظاهرات المعارضة فساحة السلاح ، فتفرقها الشرطة الخيالة بالضرب و فى الجولة الأخيرة للرئيس فى الأقاليم كان على الجنود ان يدافعوا عنه بأعمال السيوف فى الحشود الغاضبة التى راحت تشتمه و تلقى عليه الخضار . و لم تكن مظاهر الأستياء تلك تؤثر فيه . و كأنه لا يلاحظ أن البلاد آخذة بالغرق فى الفوضى . و حسب راى سيفيرو دل بايي و النسة ماتيلدى بينيدا ، فإن ثمانين بالمئة من الناس يمقتون الحكومة و أكثر تصرف وقور يمكن للرئيس القيام به هو الإستقالة لأن أجواء التوتر قد صارت لا تطاق و يمكن لها أن تنفجر فى أى لحظة كبركان . و هذا ما حدث فى ذلك الصباح من كانون الثانى 1891 عندما تمردت القوات البحرية و عزل مجلس الشيوخ الرئيس .
سمعت سيفيرو دل باىي يقول :
ستنفلت حملة قمع رهيبة يا عمتى سأذهب للشمال لأواصل النضال ، و ارجو ان تحمى نيفيا و الأطفال لأنى لن أستطيع عمل ذلك لوقت لا أدرى مداه..
- لقد فقدت احدى ساقيك فى الحرب يا سيفيرو و إذا ما فقدت الأخرى فستبدو قزما.
- لا خيار لى . ففى سنتياجو سيقتلوننى حتما .
- لا تكن ميلودراميا . فلسنا فى الأوبرا !
و لكن سيفيرو دل باىي كان يملك معلومات خيرا من عمته ، مثلما اتضح بعد عدة أيام ، عندما انفلت الرعب . فقد تمثل رد فعل الرئيس فى حل مجلس الشيوخ ، و تنصيب نفسه ديكتاتورا و تعيين المدعو خواكين غودى لينظم حملة القمع و هو سادى يؤمن بأن (الأغنياء يجب أن يدفعوا الثمن لأنهم أغنياء و الفقراء لأنهم فقراء و أما رجال الدين فيجب رميهم بالرصاص ) حافظ الجيش على ولائه للحكومة و ما بدأ كشغب سياسى تحول الى حرب أهلية مرعبة حين تواجه فرعا القوات المسلحة ( البحرية و الجيش ) و سارع غودى بدعم حاسم من قادة الجيش الى اعتقال اعضاء مجلس الشيوخ المعارضين الذين استطاع القاء القبض عليهم . و انتهت الضمانات المواطنية ، و بدأ انتهاك حرمة البيوت و اعمال التعذيب المنهجية ، بينما اعتكف الرئيس فى قصره مشمئزا من تلك الأساليب و لكنه مقتنع بأنه لا توجد وسيلة أخرى لإخضاع اعدائه السياسيين ، و قد سمع و هو يقول أكثر من مرة ( لاأريد أن أعرف شيئا عن هذه الإجراءات )
من رواية
صورة عتيقة
تأليف ايزابيل الليندى
2001
ترجمة صالح علمانى
نشر دار المدى
......
كانوا يسخرون من خطابيته كثيرة الثرثرة و تصريحاته المفعمة بحب تشيلى و ا لغيرة عليها ، و يقولون إنه كان يوحد نفسه بالوطن إلى حد أنه لم يعد قادرا على تصور الوطن دون ان يكون على رأسه و كانوا ينسبون اليه عبارة ( إما لى أو لا لأحد ) لقد عزلته سنوات الحكم و صار يبدى فى النهاية سلوكا غير مستقر ينتقل من النزوة إلى الإكتئاب ، و لكنه كان يتمتع ، حتى بين أسوأ خصومه ، بسمعة رجل الدولة الجيد و بالنزاهة التى لا تشوبها شائبة ، مثل جميع رؤساء تشيلى تقريبا ، الذين على خلاف زعماء أمريكا اللاتينية يخرجون من الحكم و هم أشد فقرا مما كانوا عليه حين دخلوا اليه . كانت له رؤية مستقبلية فكان يحلم بخلق أمة عظيمة ، و لكن قدر له أن يعيش نهاية مرحلة و فساد حزب أمضى زمنا طويلا فى السلطة . لقد كانت البلاد و العالم يتغيران ، و كان النظام الليبرالى قد أصيب بالفساد . فالرؤساء يختارون من سيخلفهم . و السلطات المدنية و العسكرية تمارس التزوير فى الإنتخابات ، و يكسب حزب الحكومة دوما بفضل قوة تليق بها صفة الوحشية التى ألصقت بها : فحتى الموتى و الغائبين كانوا يشاركون فى التصويت للمرشح الرسمى . و كانت الأصوات تشترى و يجرى ترهيب المتشككين بالهراوى . واجه الرئيس معارضة لا تلين من المحافظين ، و من بعض الجماعات الليبرالية المنشقة ، و سلك الكهنوت بمجمله و لاقسم الأكبر من الصحافة . و لأول مرة ألتقت أقصى أطراف الطيف السياسى على قضية واحدة : هزيمة الحكومة . فى كل يوم كانت تجتمع مظاهرات المعارضة فساحة السلاح ، فتفرقها الشرطة الخيالة بالضرب و فى الجولة الأخيرة للرئيس فى الأقاليم كان على الجنود ان يدافعوا عنه بأعمال السيوف فى الحشود الغاضبة التى راحت تشتمه و تلقى عليه الخضار . و لم تكن مظاهر الأستياء تلك تؤثر فيه . و كأنه لا يلاحظ أن البلاد آخذة بالغرق فى الفوضى . و حسب راى سيفيرو دل بايي و النسة ماتيلدى بينيدا ، فإن ثمانين بالمئة من الناس يمقتون الحكومة و أكثر تصرف وقور يمكن للرئيس القيام به هو الإستقالة لأن أجواء التوتر قد صارت لا تطاق و يمكن لها أن تنفجر فى أى لحظة كبركان . و هذا ما حدث فى ذلك الصباح من كانون الثانى 1891 عندما تمردت القوات البحرية و عزل مجلس الشيوخ الرئيس .
سمعت سيفيرو دل باىي يقول :
ستنفلت حملة قمع رهيبة يا عمتى سأذهب للشمال لأواصل النضال ، و ارجو ان تحمى نيفيا و الأطفال لأنى لن أستطيع عمل ذلك لوقت لا أدرى مداه..
- لقد فقدت احدى ساقيك فى الحرب يا سيفيرو و إذا ما فقدت الأخرى فستبدو قزما.
- لا خيار لى . ففى سنتياجو سيقتلوننى حتما .
- لا تكن ميلودراميا . فلسنا فى الأوبرا !
و لكن سيفيرو دل باىي كان يملك معلومات خيرا من عمته ، مثلما اتضح بعد عدة أيام ، عندما انفلت الرعب . فقد تمثل رد فعل الرئيس فى حل مجلس الشيوخ ، و تنصيب نفسه ديكتاتورا و تعيين المدعو خواكين غودى لينظم حملة القمع و هو سادى يؤمن بأن (الأغنياء يجب أن يدفعوا الثمن لأنهم أغنياء و الفقراء لأنهم فقراء و أما رجال الدين فيجب رميهم بالرصاص ) حافظ الجيش على ولائه للحكومة و ما بدأ كشغب سياسى تحول الى حرب أهلية مرعبة حين تواجه فرعا القوات المسلحة ( البحرية و الجيش ) و سارع غودى بدعم حاسم من قادة الجيش الى اعتقال اعضاء مجلس الشيوخ المعارضين الذين استطاع القاء القبض عليهم . و انتهت الضمانات المواطنية ، و بدأ انتهاك حرمة البيوت و اعمال التعذيب المنهجية ، بينما اعتكف الرئيس فى قصره مشمئزا من تلك الأساليب و لكنه مقتنع بأنه لا توجد وسيلة أخرى لإخضاع اعدائه السياسيين ، و قد سمع و هو يقول أكثر من مرة ( لاأريد أن أعرف شيئا عن هذه الإجراءات )
من رواية
صورة عتيقة
تأليف ايزابيل الليندى
2001
ترجمة صالح علمانى
نشر دار المدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق