السبت، 31 يناير 2015

المواجهة الأخيرة للنحاس باشا -2

بعد  ان  خطب  النحاس  باشا اما  ضريح  سعد فى  ذكراه فى  اغسطس  1953  ،  تشجع  من  رد  فعل الجماهير  و  قرر  أن  يتقدم  خطوة  أخرى  للأمام  .
يروى  ابراهيم  طلعت فى  مذكراته  ان  الأستاذ  شفيق الديب  اتصل به يوم خميس و اخبره ان مصطفى النحاس  سيصلى الجمعة بمسجد  ابى العباس  بالأسكندرية  .
"  و فى  صباح اليوم التالى  ..  أول  يوم  جمعه  فى شهر  سبتمبر  1953  بكرت فى النزول  من  منزلى  ،و  أخذت اتجول  فى  منطقة رأس التين  المجاورة للمسجد  ..  و  ترددت  على  عدة مقاه  .. كانت الحياة  تسير  سيرها العادى  ..  و  تاكدت أن  أحدا لا  يعرف  بأن النحاس  باشا  سوف  يصلى  الجمعة فى المسجد العتيد  .
بدأ  المصلون  يتوافدون  على المسجد  بشكل  طبيعى  للغاية  .. و  قبيل  الأذان  للصلاة لاحظت  من المقهى  الذى  كنت  اجلس داخله  و  أستطيع  من  موقعى  مشاهدة المدخل  الرئيسى للمسجد  ،  شاهدت  بعض  الشبان الوفديين  واقفين بالقرب  من باب  المسجد ، و  ما لبث  أن  حضر  الأستاذ  شفيق الديب  فى  سيارة  أجرة و صافح  هؤلاء  الشبان ، كانوا  لا يتجاوز  عددهم  خمسة أفراد  عرفت  منهم  حسن  رجب  و  عمر  بركات  ..  صافحوا  شفيق  الديب  و وقفوا خارج المسجد  فى انتظار  القادم  للصلاة  ..  مصطفى النحاس  .
بعد  دقائق  قليلة  توقفت  بالقرب  من  باب  المكسجد الكبير  سيارة  ترجل  منها  النحاس  باشا  و  معه  سكرتيره الخاص  عبد الخالق  مجاور  .
و صافح النحاس  من  كانوا فى استقباله ..  و  ما لبث  أن تنبه بعض  المارة  و المتوجهين  الى  المسجد  للصلاة  إلى وجود  النحاس  فأسرعوا يلتفون  حوله  يصافحونه  و  يحاولون  تقبيل  يده ،  و تزاحم الناس  حوله  ، و  دخل  المسجد  حيث  قابله المصلون  بالهتاف  و الدعاء  .. و  جلس  متأهبا للصلاة .
و  انتشر  الخبر  بسرعة البرق  بين جماهير رأس التين  و الميدان  و  الأحياء المجاورة ،و  أخذ  الناس  يجرون  فى  لهفة  متوجهين  الى المسجد  لتحية  النحاس  باشا .
و بينما كان  إمام المسجد  يخطب  خطبة الجمعة  التى  حيا فيها النحاس  باشا تحية  طيبة و دعا  له  و  للوطن العزيز  .. كان ميدان المسجد  و الشوارع المؤدية  اليه  تموج  بآلاف المواطنين  ،  حتى لم  يعد  بها  موضع  لقدم  .
و فى  نفس ا لوقت  كانت  قوات الأمن  قد  تنبهت  لخطورة الموقف  فأسرعت  بعدتها  و  عتادها  ،  مئات من الجنود بخوذاتهم  و  هرواتهم  تنقلهم  سيارات البوليس  الكبيرة  و  عشرات  الضباط على  رأسهم  الحكمدار  و  وكيل  الحكمدار  و  غيرهم من  كبار  الضباط  ..  كان  هؤلاء  جميعهم  يحاولون  تفريق الجماهير  ..  و  لكن  عبثا  كانوا يحاولون  .
لقد  ازداد  الناس  اصرارا  على الوقوف  لتحية الزعيم  الذى  احبوه  .. لقد ذابت  قوات الأمن  الضخمة  فى  بحر  الجماهير  .. و تعالت  هتافات الناس  فى  كل  مكان  يهتفون  بحياة  النحاس  باشا و  الوفد  و  وحدة  وادى النيل  ..  كان  أهم الهتافات  التى  ترددت  فى  ذلك  اليوم  (  الحق  فوق  القوة   - الأمة فوق  الحكومة  -  لا  مفاوضة  مع الإنجليز  -  لا  استفتاء  فى السودان  - النحاس  زعيم الأمة  -  لا  زعيم الا  النحاس  - الشعب  يرفض  الديكتاتورية  -  اين الدستور  يا  حكومة الثورة ....  الخ  )
لم  تكن  هذه الهتافات  متفق  عليها  أو محضرة بترتيب  مسبق   و لكنها  كانت  تتردد  فى  كل  مكان و  تقال بحماسة  بالغة و  بأصوات  عالية  مدوية  بين الجماهير  المحتشدة حول  النحاس  فى الميدان الكبير  الذى  يقع به  المسجد  و  فى  شارع الترام  و  الشوارع المتفرعة  منها  ..
كانت الجماهير تتزايد  باستمرار .. كانت  الناس  تجرى  مسرعة  الى  حيث  الزحام  الكبير  لكى  تشارك فى  تحية مصطفى النحاس  و  استقباله .
و  ازداد حرج  رجال الأمن  من  ازدياد  خطورة الموقف  فالنحاس  واقف  تحيطه  مجموعة  من  كبار  ضباط الشرطة و  تحيطهم الجماهير  التى  اكتظت  بهم الشوارع  ..  كان النحاس  يلوح للجماهير  بيديه  مبتسما  فى  هدوء  و  اطمئنان  . 

فلما  تفاقم الموقف  حضرت  ثلة  كبيرة من الجنود  يقودها بعض  الضباط  ،  الجميع  يضعون  فوق  رؤوسهم الخوذات و يمسكون فى  ايديهم الهراوات ، و  دفعوا بالجماهير  التى  تحيط بالرجل بعيدا  عنه فى  غلظة  واضحة  و  حاولوا  اجباره  على  ركوب  السيارة  و العودة  من  حيث  أتى  .
و  هنا اندفع  حسن  رجب  أحد  الشبان الوفديين  وقتئذ  يحاول الإلتحام  برجال  الشرطة فصاح فيه النحاس  بألا  يفعل  .  و لكنه  اصيب بحالة شبه  هيستيرية  و  أخذ  يهتف  و  هو فى  شبه  غيبوبة (  تسقط القوة الغاشمة  -  تسقط الديكتاتورية  -  تسقط  حكومة الثورة  )
و اخذت الجماهير  تردد  هذه الهتافات  فى  عنف  بالغ  و  كأنها  تقبل التحدى  ثم  ما لبثت  ان  اقتحمت  كردون  الشرطة  المحيط بالنحاس  و  حملت  حسن  رجب  على  اكتافها  الذى  اخذ  يردد  هذه الهتافات  فيرددها الناس  فى  قوة و  عنف  و  اصرار  .
و  هنا  حاول  احد ضباط الشرطة  أن يضرب  حسن  رجب   بعصاه الغليظة  .. و لكن  مصطفى النحاس  كان  أسرع  اليه  من يده  فقد اسرع الرجل  الذى  تجاوز السبعين  فى  حركة  لا  تصدر  الا  من  شاب  فى العشرين  ،  لكى  يمسك  بالعصا  و  هى فى يد الضابط  قبل ان  يهوى بها  على الرجل ..  و أغلظ القول  لهذا الضابط  و  حذره  من الإعتداء  على  اى  احد  من الناس  و  انه  يحمله  مسئولية الدماء  التى تسيل اذا حاول البوليس  الإعتداء  على احد  .
و لم  يكن  منطقيا  ان  ينهزم  رجال  الأمن  ، فسرعان ما عاودوا  ترتيب  صفوفهم  و  استطاعوا  ان  يقبضوا  على الذين تزعموا  المظاهرة  و الهتاف  . و  منهم  حسن  رجب  الذى  كان  لا  يكف  عن  ترديد الهتافات المعادية فى  حالة  لا وعى  كامل  و  كان النحاس  باشا  قد ركب  السيارة  و  معه  شفيق  الديب  و سكرتيره .. فلما رأى  رجال  الشرطة  قد  ألقوا القبض  على  بعض  الأشخاص  أمر  السائق  بعدم السير  ، و  عبثا  حاول  كبار  الضباط إقناعه بالسير  و لم  تتحرك سيارة  النحاس  باشا  الى  بعد  ان  أخلى رجال الأمن  سبيل  من قبضوا عليهم و  منهم حسن رجب  الذى  طلب  منه النحاس  باشا  ان  يركب  معه فى السيارة ..  و  سارت سيارة النحاس  باشا  يحيطها  عدد  كبير  من  كونستبلات الشرطة و  الضباط راكبى  الموتسيكلات  و  الجماهير  تحيى  الرجل  بالهتاف  و التصفيق  على  مدى الطريق  الذى  اجتازته سيارته  حتى  فندق  سان  ستيفانو  حيث  يقيم النحاس  باشا  .


و  تقرر لاحقا  تحديد  اقامة النحاس باشا فى  منزله بالقاهرة ردا  على  ما حدث  حيث  تمت  اعادته  للقاهرة  بالقوة  كما  تم القبض  على الذين  شاركوا فى  استقابله  او الهتاف  له  و رحلوا  الى  معتقل  روض  الفرج ثم  الى  سجن المنيا  الذى  كان  غاصا بالمعتقلين الوفديين
و فى  يوم 16  سبتمبر  اقام  مجلس  قيادة الثورة  مؤتمرا شعبيا  فى ميدان  عابدين  خطب  فيه  محمد  نجيب  و  جمال  عبد الناصر  و  صلاح سالم  و  هاجموا  جميعا الوفد  و  مصطفى النحاس  .. و  صدر  فى  نفس اليوم  أمر  بتاليف  محكمة الثورة  برئاسة قائد الجناح عبد اللطيف البغدادى  و  عضوية  السادات  و قائد الأسراب  حسن ابراهيم  .

ص_ 206
مذكرات  ابراهيم طلعت
ايام الوفد الأخيرة
مكتبة  الأسرة
2003           

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية